المدونة

الكلمة الثامنة والأربعون: ?رسالة الرسل?

الكلمة الثامنة والأربعون

?رسالة الرسل?

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد..

قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل، الآية رقم: 36]، تضمنت هذه الآية الكريمة أمران عظيمان، أحدهما? أن الله تعالى بعث إلى كل أمة برسالة مع رسول اختاره لإيصال رسالته إليهم، أرسلهم {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)} [سورة النساء، الآية رقم: 165].

وثانيهما? أن مضمون هذه الرسالة شيئان: أمر ونهي، فأما الأمر فهو أن يعبدوه وحده، وأما النهي فهو ألا يشركوا به شيئًا، وهو في الآية السابقة الأمر باجتناب الطاغوت. وتحقيق الأمر أن تكون العبادة خالصة لله تعالى سواء ما كان منها من الاعتقادات القلبية، أو الأقوال أو أفعال الجوارح، أما تحقيق النهي فيكون باجتناب الطاغوت، وهو كل عابد أو معبود من دون الله. فالبراءة من العابد والمعبود هي ملة أبينا إبراهيم -عليه السلام-، قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة، الآية رقم: 4]. «والطاغوت عام في كل ما عبد من دون الله ورضي بالعبادة، من معبود أو متبوع أو مطاع في غير طاعة الله ورسوله فهو طاغوت، والطواغيت كثيرة ورؤسهم خمسة:

الأول? الشيطان الداعي إلى عبادة غير الله، والدليل قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60)} [سورة يس، الآية رقم: 60].

الثاني? الحاكم الجائر المغير لأحكام الله، والدليل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)} [سورة النساء، الآية رقم: 60].

الثالث? الذي يحكم بغير ما أنزل الله، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} [سورة المائدة، الآية رقم: 44].

الرابع? الذي يدعي علم الغيب من دون الله، والدليل قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)} [سورة الجن، الآيتان رقم: 26-27]. وقال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)} [سورة الأنعام، الآية رقم: 59].

الخامس? الذي يُعبد من دون الله وهو راض بالعبادة، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)} [سورة الأنبياء، الآية رقم: 29].

والإنسان ما يصير مؤمنًا إلا بالكفر بالطاغوت، والدليل قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)} [سورة البقرة، الآية رقم: 256].

والرشد دين محمد -صلى الله عليه وسلم-، والغي دين أبي جهل، والعروة الوثقى شهادة أن لا إله إلا الله وهي متضمنة للنفي والإثبات، تنفي جميع أنواع العبادة عن غير الله وتثبت جميع أنواع العبادة كلها لله وحده لا شريك له(١).

وسئل الشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- عن معنى لا إله إلا الله فأجاب بقوله: اعلم رحمك الله أن هذه الكلمة هي الفارقة بين الكفر والإسلام، وهي كلمة التقوى، وهي العروة الوثقى، وهي التي جعلها إبراهيم -عليه السلام- كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون، وليس المراد بقولها باللسان مع الجهل بمعناها، فإن المنافقين يقولونها وهم تحت الكفار في الدرك الأسفل من النار مع كونهم يصلون ويتصدقون، ولكن المراد بقولها مع معرفتها بالقلب ومحبتها ومحبة أهلها وبغض من خالفها ومعاداته، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ»(٢)، وفي رواية: «صِدْقاً مِنْ قَلْبِهِ»(٣)، وفي حديث آخر: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»(٤)، إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على جهالة أكثر الناس بهذه الشهادة.(٥)

واللهچ لما أمر عباده في رسالته التي أرسلها إليهم أن يعبدوه وحده، وبين لهم أنه أحق بذلك ليكونوا على بصيرة فقال {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3)} ثم بين ذلك فقال: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)} [سورة قريش، الآية: 4]، وفي آية أخرى يقولچ: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)} [سورة البقرة، الآية رقم: 21] ثم بين ذلك فقال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} [سورة البقرة، الآية رقم: 22].

وفي آيات أخرى بين تعالى عظمة الخالق ثم بين ضعف المخلوق ليكون العبد على بصيرة بمن يعبد وبمن يتعلق، وإليك الآيات فتدبر، قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)} [سورة الفرقان، الآيات رقم: 1-3].

وما تقدم ذكره هو ما تضمنته كلمة التوحيد العظيمة التي بعث الله بها جميع الرسل «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» التي من حققها نال العز في الدنيا والفوز في الآخرة، وسيأتي إن شاء الله شرح لهذه الكلمة العظيمة.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

_________

(١) مجموعة التوحيد، ص: (12-14).

(٢) صحيح البخاري رقم (99).

(٣) صحيح البخاري برقم (128) وصحيح مسلم برقم (32).

(٤) صحيح مسلم برقم (23).

(٥) رساله شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- يجيب فيها عن سؤال حول معنى لا إله إلا الله ص: (1).