المدونة

الكلمة الرابعة والأربعون: تأملات في قوله تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ}

الكلمة الرابعة والأربعون

تأملات في قوله تعالى:

{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ} الآية.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد..

قال تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)} [سورة آل عمران، الآية رقم: 64].

«هذا الخطاب يعم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن جرى مجراهم، {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ} والكلمة تطلق على الجملة المفيدة كما قال ها هنا، ثم وصفها بقوله: {سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} أي عدل ونصف، نستوي نحن وأنتم فيها، ثم فسرها بقوله: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} لا بشرًا ولا ملكًا ولا وثنًا ولا صليبًا ولا صنمًا ولا طاغوتًا ولا نارًا ولا شيئًا، بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له، وهذه دعوة جميع الرسل.

قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} [سورة الأنبياء، الآية رقم: 25].

وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل، الآية رقم: 26].

ثم قال ?: {وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران، الآية رقم: 64] أي لا نتبعه في سن تشريع ولا في تحليل شيء أو تحريمه إلا فيما أحله الله تعالى أو حرمه، وهو نظير قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة التوبة، الآية رقم: 31] معناه أنهم أنزلوهم منزلة ربهم في قبول تحريمهم وتحليلهم لما لم يحرمه الله ولم يحله الله» (¬1).

قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} أي أَعْرضَوا عما دُعوا إليه: {فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}، أي متصفون بدين الإسلام، منقادون لأحكامه معترفون بما لله علينا في ذلك من المنن والإنعام، غير متخذين أحدًا ربًّا، لا عيسى ولا عزيرًا، ولا الملائكة؛ لأنهم خلق مثلنا، محدَث كحدوثنا، ولا نقبل من الرهبان شيئًا بتحريمهم علينا ما لم يحرمه الله علينا فنكون قد اتخذناهم أربابًا (¬2).

من فوائد الآية الكريمة?

1- أُمر الرسول عليه الصلاة والسلام أن يدعو أهل الكتاب إلى هذه الكلمة السواء؛ لقوله: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ}، وهنا سؤال: هل الرسول قام بذلك؟ نعم حتى كان يكتب بها إلى الملوك.

روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- عن أبي سفيان في قصته حين دخل على قيصر، وفيه: ثم جيء بكتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقرأه فإذا فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى أما بعد فأسلم تسلم وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين (¬3) {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)} (¬4).

2- التنازل مع الخصم لإلزامه بالحق، كيف ذلك؟ لأنه قال: {سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} والحق بلا شك مع الرسول -صلى الله عليه وسلم-، لكن من أجل إلزام الخصم وإقامة الحجة عليه.

3- أن جميع الرسل متفقون على هذه الكلمة: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} لأنه ما دام أنها كلمة سواء بيننا وبينهم، معناه أنها عندهم كما هي عندنا، وهذا هو الواقع، أن جميع الرسل متفقون على هذه الكلمة، لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا، بل إن الله تعالى قال في كتابه العظيم: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [سورة الذاريات، الآية رقم: 56].

4- أن الحكم لله بين الناس، وأنه ليس لأحد أن يشرع من دون الله؛ لقوله: {وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}.

5- أن الحكم بين الناس والعبادة مقترنان؛ لأن الله قرن بينهما، {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}، لأنك لن تعبد الله إلا بشريعته، إذن يلزم أن يكون المشرع هو المعبود. ما دمت تعبد الله فلن تعبده إلا بشريعته. فالمشرع هو المعبود الذي يعبد، لأنه سنَّ طريقًا أو وضع طريقًا وقال: اسلكوا هذا لتصلوا إلي، إذن كل طريق يخالفه فلن يوصل إلى الله، وهذا وجه التلازم بين قوله: أن لا نعبد، وقوله: ولا يتخذ، فإن من اتخذ ربًّا من دون الله يتبعه في التحليل والتحريم فإنه لم يعبد الله؛ لأن عبادة الله لا تكون إلا بموافقة الشرع.

6- أن من دعا الناس إلى حلال أو حرام، بإذن الله وشرعه، فهو على حق، تؤخذ من قوله: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} فهوج لم يقل: {وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا} فحسب بل قال: {مِنْ دُونِ اللَّهِ}.

7- أنه إذا تولى الخصم بعد إقامة الحجة عليه فإنه يعلن له بالبراءة منه، والتزام الحق؛ لقوله: {اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}.

8- أنه ينبغي للمسلم أن يعتز بدينه، وأن يعلنه، ويشهره، خلافًا للضعفاء الذين عندهم ضعف في الشخصية، وقلة الدين، الذين يتسترون بدينهم مخافة أن يعيروا به، حتى إن بعضهم كما قيل لي يخجل أن يصلي بين الناس، يقول: أخشى أن أنسب إلى الدين، والعياذ بالله. وهذا يدل على قلة الإيمان، وعلى ضعف الشخصية، وأن الإنسان ليس عنده رصيد يفتخر به ويعتز به.

9- إشهاد الخصوم على ما نحن عليه من الحق؛ لقوله: {اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} لما في ذلك من الغضاضة عليهم وكسر جبروتهم» (¬5).

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

¬_________

(¬1) تفسير ابن كثير -رحمه الله- (3/ 82-83) بتصرف.

(¬2) تفسير القرطبي -رحمه الله- (5/ 162) بتصرف.

(¬3) أي المزارعين.

(¬4) صحيح البخاري رقم (7)، وصحيح مسلم رقم (773) مطولاً.

(¬5) تفسير القرآن الكريم للشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-، سورة آل عمران (1/ 369-375) بتصرف.