المدونة

الكلمة الثالثة والأربعون: حكم طاعة من كره ما أنزل الله

الكلمة الثالثة والأربعون

حكم طاعة من كره ما أنزل الله

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد..

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)} [سورة محمد، الآيات رقم: 25-28].

«ظاهر الآية يدل على أن بعض الأمر الذي قالوا لهم سنطيعكم فيه، مما نزل الله وكرهه أولئك المطاعون.

والآية الكريمة تدل على أن كل من أطاع من كره ما نزل الله في معاونته له على كراهته ومؤازرته له على ذلك الباطل، أنه كافر بالله، بدليل قوله تعالى فيمن كان كذلك: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)} [سورة محمد، الآيتان رقم: 27-28].

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27)} أي: فكيف يكون حال هؤلاء إذا توفتهم الملائكة؟ أي: قبض ملك الموت وأعوانه أرواحهم، في حال كونهم ضاربين وجوههم وأدبارهم.

والإشارة في قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ} [سورة محمد، الآية رقم: 28].

أي ذلك الضرب وقت الموت واقع بسبب أنهم: {اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ}، أي أغضبه من الكفر به، وطاعة الكفار الكارهين لما نزله الله.

والإسخاط استجلاب السخط، وهو الغضب هنا.

وقوله: {وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} لأن من أطاع من كره ما نزل الله فقد كره رضوان الله؛ لأن رضوانه تعالى ليس إلا في العمل بما نزّل، فاستلزمت كراهة ما نزّل: كراهة رضوانه؛ لأن رضوانه فيما نزل، ومن أطاع كارهه فهو ككارهه.

وقوله: {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} أي أبطلها؛ لأن الكفر سيئة لا تنفع معها حسنة.

واعلم أن هذه الآية الكريمة، قد قال بعض العلماء: إنها نزلت في المنافقين.

وقال بعضهم: إنها نزلت في اليهود، وأن المنافقين أو اليهود قالوا للكفار الذين كرهوا ما نزل الله: سنطيعكم في بعض الأمر، وهو عداوة النبي -صلى الله عليه وسلم- والتعويق عن الجهاد، ونحو ذلك.

وبعضهم يقول: إن الذين اتبعوا ما أسخط الله هم اليهود حين كفروا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- لما عرفوه، وكرهوا رضوانه وهو الإيمان به -صلى الله عليه وسلم-.

والتحقيق الذي لا شك فيه أن هذه الآيات عامة في كل ما يتناوله لفظها، وأن كل ما فيها من الوعيد عام لمن أطاع من كره ما نزل الله.

مسألة: اعلم أن كل مسلم يجب عليه في هذا الزمان، تأمل هذه الآيات من سورة محمد وتدبرها، والحذر التام مما تضمنته من الوعيد الشديد؛ لأن كثيرًا ممن ينتسبون للمسلمين داخلون بلا شك فيما تضمنته من الوعيد الشديد؛ لأن عامة الكفار من شرقيين وغربيين كارهون لما نزل الله على رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهو هذا القرآن وما يبينه به النبي -صلى الله عليه وسلم- من السنن.

فكل من قال لهؤلاء الكفار الكارهين لما نزله الله: سنطيعكم في بعض الأمر، فهو داخل في وعيد الآية.

وأحرى من ذلك من يقول لهم: سنطيعكم في كل الأمر، كالذين يتبعون القوانين الوضعية، مطيعين بذلك للذين كرهوا ما نزل الله، فإن هؤلاء لا شك أنهم ممن تتوفاهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم، وأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه، وأنه محبط أعمالهم.

فاحذر كل الحذر من الدخول في الذين قالوا: {سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ}»(١).

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

_________

(١) أضواء البيان للشنقيطي (8/ 618-625) باختصار.