الكلمة السابعة والعشرون
أقسام الناس في العلم والعمل
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد..
فإن الناس في العلم والعمل ينقسمون إلى ثلاثة أصناف - وأقصد بالناس عموم الناس المسلم والكافر والبر والفاجر-: فالصنف الأول: الذي يعمل بعلم، والثاني: الذي يعلم ولا يعمل، والثالث: الذي يعمل بلا علم؛ والناجي من هذه الأصناف الثلاثة هو الأول.
وقد ذكر الله هذه الأقسام الثلاثة في أعظم سورة في القرآن سورة الفاتحة، فقال معلمًا لعباده الدعاء الذي يكونون به من الناجين ويكونوا من الصالحين {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وهذا هو الصنف الأول، {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} وهذا الصنف الثاني، {وَلَا الضَّالِّينَ (7)} وهذا هو الصنف الثالث.
أما الصنف الأول: وهم الذين أنعم الله عليهم بسلوك الصراط المستقيم فإن أولى الناس دخولًا في هذا المعنى هم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته ثم أتباعه من بعده، فمن أحب أن يكون منهم ومعهم فليطلع على سيرهم وليقتد بهم وليحبهم؛ فإن المرء مع من أحب، ويبغض من أبغضهم ويجاهد من خالفهم بقلبه ولسانه ويده. قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)} [سورة الفتح، الآية رقم: 29]، وقال تعالى لرسوله -صلى الله عليه وسلم-: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)} [سورة النساء، الآية رقم: 105].
فقول الله: {بِمَا أَرَاكَ} أي: بما علمك الله وأوحى إليك.
وفي حديث النواس بن سمعانگ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ تَقْدُمُهُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ، وَآلُ عِمْرَانَ»، ثم قال في آخر الحديث: «تُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبِهِمَا»(١).
أما الصنف الثاني فهم الذين يعلمون ولا يعملون، فمرة يحرِّفون ومرة يختالون ومرة يخفون العلم والحق حتى لا يحتج به عليهم وعلى رأس هؤلاء طائفة اليهود ومن تشبه بهم فهو منهم، قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)} [سورة الأنعام، الآية رقم: 91].
أما احتيالهم فقد ذكر الله قصة أصحاب السبت، وقد نهوا عن الصيد يوم السبت فجعلوا شباكهم يوم السبت وأخذوا الصيد يوم الأحد، فزعموا أنهم لم يخالفوا ما نهوا عنه فعاقبهم الله بأن مسخهم قردة وخنازير(٢). ومن خبيث مكرهم أن ما لم يستطيعوا إخفاءه من العلم والحق عمدوا إلى تأويله التأويلات الباطلة، قال الله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)} [سورة آل عمران، الآية رقم: 71].
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتِ الْيَهُودُ، فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ»(٣). وأفظع من ذلك وأشنعه إنكارهم نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- وقد عرفوا أنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال الله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)} [سورة البقرة، الآية رقم: 146].
أما الصنف الثالث: فهم يعملون بلا علم، وعلى رأس هذه الطائفة النصارى فقد تركوا الهدى والحق فلم يتعلموه وصاروا إلى البدع والمحدثات، قال تعالى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)} [سورة الحديد، الآية رقم: 27]. وقد ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في تفسير آية الفاتحة بأن المغضوب عليهم اليهود والضالين هم النصارى؛ فقد روى الترمذي في سننه من حديث عدي بن حاتم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «اليَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضُلاَّلٌ»(٤).
والآيات الواردة في بيان حال اليهود والنصارى كثيرة جدًّا.
وما بين الله لنا ذلك من أحوالهم إلا لنحذر أن نتبعهم فنكون منهم، قال الشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله-: وكثير من الناس إذا رأى في التفسير أن اليهود مغضوب عليهم وأن النصارى ضالون، ظن الجاهل أن ذلك مخصوص بهم، وهو يقر أن ربه فارض عليه أن يدعو بهذا الدعاء، ويتعوذ من طريق أهل هذه الصفات، فيا سبحان الله، كيف يعلمه الله، ويختار له، ويفرض عليه أن يدعو به دائمًا مع أنه لا حذر عليه منه، ولا يتصور أنه بفعله، هذا من ظن السوء بالله(٥).
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
_________
(١) صحيح مسلم برقم (805).
(٢) سبق تفصيل ذلك في الكلمة رقم (60) من موسوعة الدرر المنتقاة للمؤلف (11/ 563).
(٣) ابن بطة -رحمه الله- في إبطال الحيل (ص46) وحسن إسناده شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كما في مجموع الفتاوى (29/ 29) وابن كثير -رحمه الله- في تفسيره (1/ 293) والشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- كما في مجموع الفتاوى (10/ 230).
(٤) برقم (2954) وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- في صحيح الترمذي برقم (8202).
(٥) انظر: رسالة الشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- في تفسير سورة الفاتحة (ص18-27).