المدونة

الكلمة العشرون: ?الفهم والحفظ?

الكلمة العشرون

?الفهم والحفظ?

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد..

قال تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)} [سورة الأنبياء، الآيتان رقم: 78-79].

وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} [سورة المائدة، الآية رقم: 44].

وقال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)} [سورة العنكبوت، الآية رقم: 49].

وقال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)} [سورة التوبة، الآية رقم: 122].

وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16)} [سورة محمد، الآية رقم: 16].

في هذه الآيات الكريمات وما سيأتي من النصوص النبوية ينقسم الناس في العلم إلى أربعة أقسام:

القسم الأول: من أُوتي فهمًا ولم يؤت حفظًا تجتمع به جميع نصوص الشريعة.

روى البخاري في صحيحه من حديث عليگ أن رجلًا قال له: «هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنَ الوَحْيِ إِلَّا مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا وَالَّذِي فَلَقَ الحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلًا فِي القُرْآنِ»(١) الحديث، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» وسيأتي بتمامه.

القسم الثاني: من أتاه الله حفظًا ولم يؤت فهمًا. روى أبو داود في سننه من حديث زيد بن ثابتگ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا، فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ»(٢). وهذان القسمان محمودان، دعا لهما النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن ينضر الله وجوههما وكل واحد منهما محتاج إلى الآخر. فالحافظ يحتاج إلى الفقيه ليبين له ما في المحفوظات من كنوز العلم ودقائق الفقه، وذو الفهم يحتاج إلى الحافظ ليمده بالنصوص ليستخرج منها الحكم التي تفوت بغياب بعض النصوص الشرعية.

وإذا تأملنا الواقع فإنا نجد أن الأخطاء في فهم النصوص الشرعية تعود إلى أحد هذين الأمرين. إما حافظ ليس بفقيه أُعجب بحفظه فحمَّل النصوص ما لم تحتمل من المعاني البعيدة عنها، وإما فقيه غابت عنه بعض النصوص فاجتهد فيما لديه منها وحمَّلها معان لا تفهم إلا بالنصوص الغائبة عنه. فالحذر الحذر أن يغتر من آتاه الله أحد هاتين الصفتين دون الأخرى أن يقول على الله وفي دين الله بغير علم. «مثال ذلك ما رواه البخاري في صحيحه لما نزلت الآية: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)} [سورة الأنعام، الآية رقم: 82] شق ذلك على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقالوا: أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّهُ لَيْسَ بِذَاكَ! أَلَا تَسْمَعُ إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ لِابْنِهِ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}»(٣).

ومنها? ما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلَّا هَلَكَ»، فقلت: يا رسول الله! أليس قد قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)}؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا ذَلِكِ العَرْضُ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يُنَاقَشُ الحِسَابَ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلَّا عُذِّبَ»(٤).

القسم الثالث: «من جمع الله له الأمرين جميعًا؛ قوة الحفظ وقوة الفقه، وهذا وإن كان قليلًا أو نادرًا فهو في أعلى المراتب وأعظمها أجرًا وأكثرها نفعًا».

القسم الرابع: من لم يؤت حفظًا ولا فهمًا، وقد ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه المراتب الأربع فيما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ»(٥).

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

_________

(١).

(٢) برقم (3660) وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن أبي داود برقم (3108).

(٣) صحيح البخاري برقم (4776).

(٤) صحيح البخاري برقم (6537)، وصحيح مسلم برقم (2876).

(٥) صحيح البخاري برقم (79)، وصحيح مسلم برقم (2282).