المدونة

الكلمة السادسة عشرة: وقفات مع قوله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ}

الكلمة السادسة عشرة:

وقفات مع قوله تعالى:

{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ}

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد..

قال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)} [سورة الأنبياء، الآية رقم: 18].

قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله-: يخبر تعالى أنه تكفل بإحقاق الحق وإبطال الباطل، وإن كل باطل قيل وجُودل به، فإن الله ينزل من الحق والعلم والبيان ما يدمغه فيضمحل ويتبين لكل أحد بطلانه، فإذا هو زاهق أي مضمحل فان. وهذا عام في جميع المسائل الدينية، لا يورد مبطل شبهة عقلية ولا نقلية في إحقاق باطل أو رد حق إلا وفي أدلة الله من القواطع العقلية والنقلية ما يذهب ذلك القول الباطل ويقمعه، فإذا هو متبين بطلانه لكل أحدٍ، وهذا يتبين باستقراء السائل مسألة مسألة، فإنك تجدها كذلك، ثم قال: ولكم أيها الواصفون الله بما لا يليق به من اتخاد الولد والصاحبة ومن الأنداد والشركاء حظكم من ذلك ونصيبكم، الذي تدركون به الويل والندامة والخسران، ليس لكم مما قلتم فائدة، ولا يرجع عليكم بعائدة تؤملونها، وتعملون لأجلها، وتسعون في الوصول إليها، إلا عكس مقصودكم وهو الخيبة والحرمان (¬1)، والآيات في هذا المعنى كثيرة ومنها:

قوله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)} [سورة الإسراء، الآية رقم: 81].

قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-: الحق في لغة العرب: الثابت الذي ليس بزائل ولا مضمحل، والباطل: هو الذاهب المضمحل. والمراد بالحق في هذه الآية: هو ما في هذا القرآن العظيم والسنة النبوية من دين الإسلام، والمراد بالباطل فيها: الشرك بالله، والمعاصي المخالفة لدين الإسلام.

وقد بينچ في هذه الآية الكريمة: أن الإسلام جاء ثابتًا راسخًا، وأن الشرك بالله زهق؛ أي: ذهب واضمحل وزال. تقول العرب: زهقت نفسه: إذا خرجت وزالت من جسده.

ثم بينچ أن الباطل كان زهوقًا، أي: مضمحلًا غير ثابت في كل وقت. وقد بين هذا المعنى في غير هذا الموضع. وذكر أن الحق يزيل الباطل ويذهبه؛ كقوله: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)}، وقوله: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} الآية.

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن مسعودگ قال: دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة، وحول البيت ستون وثلاث مئة نُصُب، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)} {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)} (¬2).

وأخرج الطبراني في الصغير والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة يوم الفتح، وعلى الكعبة ثلاثمائة وستون صنمًا؛ قد شد لهم إبليس أقدامها بالرصاص؛ فجاء ومعه قضيب فجعل يهوي إلى كل صنم منها فيخر لوجهه فيقول: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)} حتى مر عليها كلها (¬3).

وقال القرطبي -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: وفي هذه الآية دليل على كسر نصب المشركين وجميع الأوثان إذا غلب عليهم، ويدخل بالمعنى كسر آلة الباطل كله، وما لا يصلح إلا لمعصية الله كالطنابير والعيدان والمزامير التي لا معنى لها إلا اللهو بها عن ذكر الله (¬4).

ومن فوائد الآية الكريمة?

1- دلت الآية الكريمة وغيرها من الآيات على أنه لا يوجد حق إلا وفي القرآن ما يؤيده ويبينه، ولا يوجد باطل إلا وفي القرآن من الأدلة ما يبطله ويقمعه، قال تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)} [سورة الفرقان، الآية رقم: 33]، وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)} [سورة الشورى، الآية رقم: 24].

2- في الآيات الكريمات تعليم لأهل الحق عند مجادلة أهل الباطل، وذلك بأن يتركهم يلقون ما لديهم من الشبهات، فإذا امتلأت قلوبهم بالإعجاب بما ألقوه ألقى عليهم ما معه من الحق فدمغه به. وقد جاء ذلك صريحًا في المناظرة التي جرت بين موسى -عليه السلام- وفرعون وسحرته، قال تعالى: {قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118)} [سورة الأعراف، الآيات رقم: 115-118].

وكذلك في مناظرة إبراهيم -عليه السلام- وغيرها، ويلحق بذلك المناظرات في المسائل الفقهية، فإنك تترك الخصم يحرر محل النزاع حتى لا تذهب الحجج والأدلة التي تأتي بها على غير محلها. ومن ذلك أيضًا ما جرى عليه القضاة من أن المدعي يجب عليه تحرير دعواه، فإن كانت باطلًا فإن المدعى عليه يسهل عليه ردها وإبطالها.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

¬_________

(¬1) تفسير الشيخ السعدي -رحمه الله- (ص681).

(¬2) صحيح البخاري برقم (4287)، وصحيح مسلم برقم (1781).

(¬3) معجم الطبراني (10/ 279) برقم (10656)، وقال في معجم الزوائد (6/ 176): رجاله ثقات. ورواه أبو نعيم في الحلية (3/ 211-212)، وقال: هذا حديث غريب من حديث علي بن عبد الله، تفرد به محمد بن إسحاق.

(¬4) أضواء البيان للشنقيطي -رحمه الله- (3/ 735-737).