المدونة

الكلمة الثامنة والثمانون: شرح اسم الله السميع

الكلمة الثامنة والثمانون: شرح اسم الله السميع

الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد،

فقد روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِئَةً إِلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ»(١).

ومن أسماء اللَّه الحسنى التي وردت في كتابه: السميع، قال بعضهم: ورد ذكر اسم اللَّه السميع خمساً وأربعين مرة، قال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيم (١٢٧)} [البقرة]. وقال تعالى {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِير (١)} [المجادلة].

وسمعه تعالى نوعان:

الأول: سمعه لجميع الأصوات الظاهرة والباطنة الخفية والجلية وإحاطته التامة بها.

الثاني: سمع الإجابة منه للسائلين والداعين والعابدين فيجيبهم ويثيبهم ومنه قوله تعالى: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء (٣٩)} [إبراهيم].

أي: مجيب الدعاء ومنه قول المصلي: سمع اللَّه لمن حمده، أي: أجاب اللَّه حمد من حمده ودعاء من دعاه كما قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إِذَا قَالَ الإِمَامُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَن حَمِدَهُ فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الحَمدُ»(٢) وفي رواية: «يَسمَعِ اللَّهُ لَكُم»(٣) أي: يُجِبكُم، فالسماع هنا بمعنى الإجابة والقبول، وفي الحديث الذي رواه الترمذي في سننه: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِن دُعَاءٍ لَا يُسمَع»(٤).

ومن آثار الإيمان بهذا الاسم العظيم:

أولاً: إثبات صفة السمع له سبحانه كما وصف اللَّه نفسه بذلك قال تعالى: {سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَار (١٠)} [الرعد]. وقال تعالى: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير (١)} [الإسراء]. وإن سألت عن سمعه فهو السميع الذي قد كمل في سمعه فاستوى في سمعه سر القول وجهره وسع سمعه الأصوات فلا تختلف عليه أصوات الخلق، ولا تشتبه عليه ولا يشغله منها سمع عن سمع ولا تُغَلِّطُه المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين على الدوام، يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات بل هي عنده كلها كصوت واحد كما أن خلق الخلق جميعهم وبعثهم عنده بمنزلة نفس واحدة(٥). قال ابن القيم رحمه الله: وضَجِيجُ أصواتِ العبادِ يسمَعُهُ ... وَلَدَيْهِ لا يَتَشَابَهُ الصوتانِ

قال تعالى: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَاّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: ٢٨]. وقال تعالى: {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَان (٢٩)} [الرحمن].

ثانياً: أن سمع اللَّه ليس كسمع أحد من خلقه فإن الخلق وإن وصُفوا بالسمع والبصر كما في قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (٢)} [الإنسان]. إلا أن سمعهم وبصرهم ليس كخالقهم، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير (١١)} [الشورى]. روى الإمام أحمد في مسنده والبخاري في صحيحه تعليقاً عن عائشة رضي الله عنها قالت: الحمد للَّه الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تكلمه وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول فأنزل اللَّه عزَّ وجلَّ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا}»(٦).

وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي موسى الأشعري قال: كنا مع النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سفر، فكنا إذا علونا كبرنا فقال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أَيُّهَا النَّاسُ اربَعُوا عَلَى أَنفُسِكُم فَإِنَّكُم لَا تَدعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِباً وَلَكِن تَدعُونَ سَمِيعاً بَصِيراً»(٧).

ثالثاً: أن اللَّه قد أنكر على المشركين الذين ظنوا أن اللَّه لا يسمع السر والنجوى. روى البخاري ومسلم من حديث عبد اللَّه بن مسعود قال: اجتمع عند البيت قرشيان وثقفي أو ثقفيان وقرشي كثيرةٌ شحم بطونهم قليلة فقه قلوبهم، فقال أحدهم: أترون أن اللَّه يسمع ما نقول؟ قال الآخر: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا، وقال الآخر: إن كان يسمع إذا جهرنا، فإنه يسمع إذا أخفينا، فأنزل اللَّه عزَّ وجلَّ: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ} [فصلت: ٢٢] الآية(٨). وكذا قوله تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم} [الزخرف: ٨٠].

رابعاً: إذا علم العبد أن ربه يسمع كل شيء لا تخفى عليه خافية فيسمع حركاته وسكناته حمله ذلك الاعتقاد على المراقبة للَّه سبحانه في جميع الأحوال وفي جميع الأمكنة والأزمنة، فيمسك عن كل قول لا يُرضي ربه، ويحفظ لسانه فلا يتكلم إلا بخير، قال تعالى: {وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: ٧].

خامساً: أن اللَّه هو السميع الذي يسمع المناجاة ويجيب الدعاء عند الاضطرار ويكشف السوء ويقبل الطاعة، وقد دعا الأنبياء والصالحون بهذا الاسم ليقبل منهم طاعتهم ويستجيب لدعائهم فإبراهيم وإسماعيل قالا: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيم (١٢٧)} [البقرة]. ودعا زكريا أن يرزقه اللَّه ذرية صالحة: {قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء (٣٨)} [آل عمران]. فاستجاب اللَّه دعاءه ودعا يوسف عليه السَّلام أن يصرف عنه كيد السوء {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم (٣٤)} [يوسف].

سادساً: أن العبد إذا دعا ربه فسمع دعاءه سماع إجابة وأعطاه ما سأله وعلى حسب مراده ومطلبه أو أعطاه خيراً منه حصل له بذلك سرور يمحو من قلبه آثار ما كان يجده من وحشة البعد فإن للعطاء والإجابة سروراً وأنساً وحلاوة، وللمنع وحشة ومرارة، فإذا تكرر منه الدعاء، وتكرر من ربه سماع وإجابة لدعائه، محا عنه آثار الوحشة، وأبدله بها أنساً وحلاوة، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: ١٨٦](٩)(١٠).

والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

_________

(١) ص: ٥٢٦ برقم ٢٧٣٦، وصحيح مسلم ص: ١٠٧٥ برقم ٢٦٧٧.

(٢) ص: ١٦٣ برقم ٧٩٦، وصحيح مسلم ص: ١٧٥ برقم ٤٠٩.

(٣) صحيح مسلم ص: ١٧٤ برقم ٤٠٤.

(٤) جزء من حديث رواه الترمذي في سننه ص: ٥٤٩ برقم ٣٤٨٢، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه من حديث عبد اللَّه بن عمرو.

(٥) طريق الهجرتين ص: ٧٦ نقلاً عن كتاب الأسماء الحسنى والصفات العلى للشيخ عبدالهادي وهبي ص: ١٤٤.

(٦) كتاب التوحيد باب قول اللَّه تعالى: {وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (١٣٤)} ص: ١٤٠٨، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (٤٠/ ٢٢٨) برقم ٢٤١٩٥ وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم.

(٧) ص: ١٢٢٦ برقم ٦٣٨٤، وصحيح مسلم ص: ١٠٨٣ - ١٠٨٤ برقم ٢٧٠٤.

(٨) صحيح ألبخاري برقم ٤٨١٧، وصحيح مسلم برقم ٥٧٧٢.

(٩) تهذيب المدارج ص: ٩٠١.

(١٠) انظر كتاب أخينا الشيخ عبد الهادي وهبي الأسماء الحسنى والصفات العلى ص: ١٤٤ - ١٤٦.