الكلمة الثالثة والستون: شرح اسم الله الكافي
الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لِلَّهِ تِسعَةٌ وَتِسعُونَ اسمًا، مِئَةٌ إِلَّا وَاحِدًا، لَا يَحفَظُهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَ الجَنَّةَ وَهُوَ وِترٌ يُحِبُّ الوِترَ»(١). وفي رواية: «مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ»(٢).
ومن أسماء اللَّه الحسنى التي وردت في كتابه: الكافي ومعناه الكافي عباده جميع ما يحتاجون ويضطرون إليه رزقاً ومعاشاً وقوتاً، الكافي كفاية خاصة من آمن به وتوكل عليه واستمد منه حوائج دينه ودنياه»(٣).
قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَاد (٣٦)} [الزمر].
وقال تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم (١٣٧)} [البقرة]. وقال تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِين (٩٥)} [الحجر].
قال ابن القيم رحمه الله:
وَهُوَ الحَسِيبُ كِفَايةً وحمايةً ... والحَسْبُ كَافِي العَبْدِ كُلَّ أَوَانِ(٤)
والتوكل على اللَّه سبب كفاية اللَّه لعبده، قال تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: ٣]. أي كافية كل أموره الدينية والدنيوية، والتوكل هو اعتماد القلب على اللَّه في حصول المطلوب ودفع المكروه مع الثقة به وفعل الأسباب المأذون فيها شرعاً(٥)، قال بعض السلف: جعل اللَّه تعالى لكل عمل جزاء من جنسه وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته لعبده فقال: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} ولم يقل: نؤته كذا وكذا من الأجر كما قال في الأعمال بل جعل نفسه سبحانه كافي عبده المتوكل عليه وحسبه وواقيه(٦)، فلو توكل العبد على ربه حق التوكل بأن اعتمد بقلبه على ربه اعتماداً قوياً كاملاً في تحصيل مصالحه ودفع مضاره وقويت نفسه وحسن باطنه بربه حصلت له الكفاية، وأتم اللَّه له أحواله وسدده في أقواله وأفعاله وكفاه همه وجلا غمه(٧)، فهناك لا تسأل عن كل أمر تيسر وصعب يتسهل وخطوب تهون وكروب تزول وأحوال وحوائج تقضى وبركات تنزل ونقم تدفع وشرور ترفع(٨).
ومن آثار الإيمان بهذا الاسم العظيم:
أولاً: إذا علم العبد أن اللَّه هو الكافي عباده رزقاً ومعاشاً وحفظاً وكلاءة ونصراً وعزاً اكتفى بمعونته عمن سواه وإذا كان كذلك وجب ألا يكون الرجاء إلا فيه والرغبة إلا إليه: روى النسائي من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «وَمَنِ استَكفَى كَفَاهُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ»(٩) «فمن وقع في شدة وضيق فليطلب من اللَّه الكفاية فإن اللَّه يكفيه، وفي صحيح مسلم في قصة الغلام المؤمن لما أبى أن يرجع عن دينه دفعه الملك إلى نفر من أصحابه أي (جماعة من الناس) وقال لهم: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا جبل معروف عندهم شاهق رفيع وقال لهم: إذا بلغوا ذروته فاطرحوه يعني على الأرض، ليقع من رأس الجبل فيموت، بعد أن تعرضوا عليه أن يرجع عن دينه فإن رجع وإلا فاطرحوه.
فلما بلغوا قمة الجبل فطلبوا منه أن يرجع عن دينه أبى، لأن الإيمان قد وقر في قلبه ولا يمكن أن يتحول أو يتزحزح، فلما هموا أن يطرحوه قال: اللَّهم اكفنيهم بما شئت - دعوة مضطر مؤمن - أي: بالذي تشاء ولم يعين، فرجف اللَّه بهم الجبل فسقطوا وهلكوا، وجاء الغلام إلى الملك فقال: ما الذي جاء بك أين أصحابك؟ فقال: قد كفانيهم اللَّه، ثم دفعه إلى جماعة آخرين وأمرهم أن يركبوا البحر في قُرقُور (سفينة). فإذا بلغوا لجة البحر عرضوا عليه أن يرجع عن دينه فإن لم يفعل رموه في البحر، فلما توسطوا من البحر عرضوا عليه أن يرجع عن دينه - وهو الإيمان باللَّه - فقال: لا! فقال: اللَّهم اكفنيهم بما شئت: فانقلبت السفينة وغرقوا وأنجاه اللَّه»(١٠)(١١).
ثانياً: من كان عليه دين فليتضرع إلى اللَّه تعالى ليكفيه هم الدين روى الترمذي في سننه من حديث علي رضي اللهُ عنه: أَنَّ مُكَاتَبًا جَاءَهُ فَقَالَ: إِنِّي قَدْ عَجَزْتُ عَنْ كِتَابَتِي فَأَعِنِّي قَالَ أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ عَلَّمَنِيهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَوْ كَانَ عَلَيْكَ مِثْلُ جَبَلِ صِيرٍ دَيْنًا أَدَّاهُ اللَّهُ عَنْكَ؟ قَالَ: قُلْ: «اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِحَلَالِكَ عَنْ حَرَامِكَ وَأَغْنِنِي بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ»(١٢).
ثالثاً: أنه يشرع للعبد أن يسأل اللَّه الكافي أن يكفيه شر الأعداء قال تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم (١٣٧)} [البقرة]. فيقول: يا كافي اكفني شر فلان الذي ظلمه أو أذاه. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي موسى أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان إذا خاف من رجل أو من قوم قال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَجْعَلُكَ فِي نُحُورِهِمْ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ»(١٣). وروى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس قال: «حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» قالها إبراهيم عليه السَّلام حين أُلقي في النار، وقالها محمد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حين قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل (١٧٣)} [آل عمران](١٤).
رابعاً: إن اللَّه تعالى كفى المؤمنين شر أعدائهم في مواطن كثيرة فعلى سبيل المثال في غزوة بدر مع قلة عددهم ونقص عدتهم وضعفهم نصرهم اللَّه وكفاهم الأعداء، قال تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُنزَلِين (١٢٤)} [آل عمران].
وكذلك في غزوة الخندق أو الأحزاب كفاهم اللَّه شر الأحزاب التي تجمعت عليهم، قال تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (٢٥)} [الأحزاب].
الخلاصة: أن الكافي اسم من أسماء اللَّه تعالى وهو بمعنى الكافي عباده جميع ما يحتاجون ويضطرون إليه رزقاً ومعاشاً وقوتاً الكافي كفاية خاصة من آمن به وتوكل عليه واستمد منه حوائج دينه ودنياه.
ويشرع للمسلم أن يسأل ربه بهذا الاسم أن يكفيه شر من ظلمه وأذاه(١٥).
والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
_________
(١) ص: ١٢٣١ برقم ٦٤١٠، وصحيح مسلم ص: ١٠٧٥ برقم ٢٦٧٧.
(٢) صحيح البخاري ص: ١٤٠٩ برقم ٧٣٩٢.
(٣) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (٥/ ٣٠٤ - ٣٠٥).
(٤) النونية (٢/ ٢٣٣).
(٥) القول المفيد على كتاب التوحيد (٢/ ٢٢٨).
(٦) بدائع الفوائد (٢/ ٧٦٦ - ٧٦٧).
(٧) فتح الرحيم الملك العلام (ص: ٥٣ - ٥٤).
(٨) تيسير الكريم الرحمن ص: ٩٢٠.
(٩) جزء من حديث ص: ٢٧٩ برقم ٢٥٩٥، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن النسائي (٢/ ٢٢٧).
(١٠) شرح رياض الصالحين (١/ ٢١٩ - ٢٢٠).
(١١) انظر قصة الغلام في صحيح مسلم ص: ١٢٠٢ برقم ٣٠٠٥.
(١٢) ص: ٥٥٩ - ٥٦٠ برقم ٣٥٦٣، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (٣/ ٤٦٤).
(١٣) (٣٢/ ٤٩٣) برقم ١٩٧١٩ وقال محققوه: حديث حسن.
(١٤) ص: ٨٦٥ برقم ٤٥٦٣.
(١٥) انظر كتاب أخينا الشيخ عبد الهادي وهبي الأسماء الحسنى والصفات العلى ص: ٢١٧ - ٢٢١.