الكلمة الرابعة والخمسون: قضاء الدَّين
الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد:
روى الحاكم في المستدرك من حديث جابر رضي اللهُ عنه قال: مات رجل فغسلناه وكفناه وحنطناه ووضعناه لرسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حيث توضع الجنائز عند مقام جبريل ثم آذنا رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالصلاة عليه فجاء معنا خطى ثم قال: «لَعَلَّ عَلَى صَاحِبِكُم دَينًا» قالوا: نعم ديناران، فتخلف فقال له رجل منا يقال له أبو قتادة: يا رسول اللَّه هما عليّ، فجعل رسول اللَّه يقول: «هُمَا عَلَيكَ وَفِي مَالِكَ وَالمَيتُ مِنهُمَا بَرِيءٌ» فقال: نعم فصلى عليه فجعل رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا لقي أبا قتادة يقول: «مَا صَنَعَتِ الدِّينَارَانِ؟ » حتى كان آخر ذلك قال: قد قضيتهما يا رسول اللَّه، قال: «الآنَ حِينَ بَرَّدتَ عَلَيهِ جِلدَهُ»(١).
هذا الحديث وغيره من الأحاديث تدل على عظم شأن الدين وأنه لا يتساهل فيه وأنه خطير جداً فمع أن الدين كما في الحديث السابق لا يتجاوز درهمين إلا أن الميت لحقه كرب وشدة في قبره حتى قُضي دينه.
وكان النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يمتنع عن الصلاة على الميت المدين في بداية الإسلام لعظم شأن الدين، فلما فتح اللَّه عليه الفتوح وكثرت الأموال صلى على من مات مديوناً وقضى عنه دينه.
والمؤمن نفسه معلقه بدينه حتى يُقضى عنه. روى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ»(٢).
قال الشوكاني: فيه الحث للورثة على قضاء دين الميت والإخبار لهم بأن نفسه معلقة بدينه حتى يُقضى عنه وهذا مقيد بمن له مال يقضى منه دينه، وأما من لا مال له ومات عازماً على القضاء فقد ورد في الأحاديث ما يدل على أن اللَّه يقضي عنه(٣).
والمؤمن قد يحبس عن الجنة بدينه: روى أبو داود في سننه من حديث سمرة قال: خطبنا رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: «هَا هُنَا أَحَدٌ مِنْ بَنِي فُلَانٍ». فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ ثُمَّ قَالَ: «هَا هُنَا أَحَدٌ مِنْ بَنِي فُلَانٍ». فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ ثُمَّ قَالَ: «هَا هُنَا أَحَدٌ مِنْ بَنِى فُلَانٍ». فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «مَا مَنَعَكَ أَنْ تُجِيبَنِي فِى الْمَرَّتَيْنِ الأُولَيَيْنِ أَمَا إِنِّي لَمْ أُنَوِّهْ بِكُمْ إِلَاّ خَيْرًا إِنَّ صَاحِبَكُمْ مَاسُورٌ بِدَيْنِهِ». فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ أَدَّى عَنْهُ حَتَّى مَا بَقِىَ أَحَدٌ يَطْلُبُهُ بِشَيْءٍ(٤). وفي رواية: «إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي مَاتَ فِيكُمْ قَدِ احْتَبَسَ عَنِ الْجَنَّةِ مِنْ أَجْلِ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ، فَإِنْ شِئْتُمْ فَافْدُوهُ، وَإِنْ شِئْتُمْ فَأَسْلِمُوهُ إِلَى عَذَابِ اللَّهِ»(٥).
والشهيد تكفر عنه ذنوبه كلها إلا الدين. روى مسلم في صحيحه من حديث عبد اللَّه بن عمرو أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلَّا الدَّيْنَ»(٦).
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث محمد بن عبد اللَّه بن جحش: أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاذَا لِي إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: «الْجَنَّةُ»، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ: «إِلَّا الدَّيْنَ سَارَّنِي بِهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ آنِفًا»(٧)، لأن دين الآدمي لابد من إيفائه إما في الدنيا وإما في الآخرة، وحقوق العباد لا تسقط إلا بتنازلهم.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: والدَّين خطير جداً وهو هم بالليل وذل بالنهار فالإنسان مهما أمكنه يجب أن يتحرز من الدين وأن لا يسرف في الإنفاق، لأن كثيراً من الناس تجده فقيراً ثم يريد أن ينفق نفقة الأغنياء فيقترض من هذا ويقترض من هذا، ولو لم يكن لك إلا وجبة واحدة بالليل والنهار فلا تقترض واصبر وقل: اللَّهم أغنني، قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ} [التوبة: ٢٨](٨).
ومن الأمثلة على التساهل بالدَّين أن بعض الناس يقترض عشرات الآلاف من الريالات وليته لأمر ضروري إما للتجارة أو للتعامل بالأسهم، ثم يخسر هذا المسكين، وقد يدخل السجن من أجل هذا وتتراكم هذه الديون الضخمة على رقبته، فيعيش مهموماً حزيناً طول عمره وذمته مشغولة بهذا الدين، وما حوادث الأسهم الماضية عنا ببعيد فقد حصل فيها من المآسي ما يندى له الجبين ويتفطر منه القلب، كل ذلك بسبب ضعف الدين، وقلة المبالاة، لأن الدين لا تكفره حتى الشهادة في سبيل اللَّه.
وينبغي للدائن عند إقراضه للآخرين أن يراعي الأمور التالية:
١ - أن يُقرض من طيب ماله لا من رديئه، قال تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ} [البقرة: ٢٦٧].
٢ - أن يحتسب الأجر بهذا الدين وألا يمن به فإن المن سبب لإحباط أجره، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى} [البقرة: ٢٦٤]، فإن أجر الدين كالصدقة، فقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد اللَّه بن مسعود أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ السَّلَفَ يَجْرِي مَجْرَى شَطْرِ الصَّدَقَةِ»(٩).
٣ - أن يُنظر المدين ويخفف عنه الدين إذا رأى منه العسر والرغبة في السداد، قال تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: ٢٨٠].
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا قَالَ لِفِتْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ»(١٠).
٤ - أن يقيد هذا الدين بالكتابة ويشهد عليه حتى لا يحصل الخلاف، قال تعالى: {وَلَا تَسْأَمُوْا أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} [البقرة: ٢٨٢].
أما المدين فإن عليه أن يراعي الأمور التالية:
١ - أن ينوي السداد عند أخذه الدين.
روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ اَلنَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا، أَدَّى اَللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إِتْلَافَهَا، أَتْلَفَهُ اَللَّهُ»(١١).
٢ - أن يسارع في قضاء الدين ويحذر المماطلة وأن يحسن القضاء، روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ»(١٢).
وروى البخاري ومسلم من حديث أبي رافع: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا، فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِلٌ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ، فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَهُ(١٣) فَرَجَعَ إِلَيْهِ أَبُو رَافِعٍ فَقَالَ: لَمْ أَجِدْ فِيهَا إِلَّا خِيَارًا رَبَاعِيًّا فَقَالَ: «أَعْطِهِ إِيَّاهُ، إِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً»(١٤).
قال الشاعر، وهو يتوعد دائنه بالمماطلة وعدم السداد:
أُمَاطِلُكَ العَصْرَيْنِ حَتْىَ تَمَلَّنِي ... وَتَرْضَى بِنِصْفِ الدَّيْنِ والأَنْفُ رَاغِمُ
٣ - أن يتعوذ باللَّه من الدين، روى البخاري في صحيحه من حديث أنس بن مالك أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحُزْنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ»(١٥).
وروى الترمذي في سننه من حديث علي رضي اللهُ عنه: أَنَّ مُكَاتَبًا جَاءَهُ فَقَالَ: إِنِّي قَدْ عَجَزْتُ عَنْ كِتَابَتِي فَأَعِنِّي قَالَ: أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ عَلَّمَنِيهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَوْ كَانَ عَلَيْكَ مِثْلُ جَبَلِ صِيرٍ(١٦) دَيْنًا أَدَّاهُ اللَّهُ عَنْكَ؟ ! قَالَ: «قُلْ: اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِحَلَالِكَ عَنْ حَرَامِكَ وَأَغْنِنِي بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ»(١٧).
والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
_________
(١) مستدرك الحاكم (٢/ ٣٧٠) برقم ٢٣٩٣، ومسند الإمام أحمد (٢٢/ ٤٠٦). وقال محققوه: إسناده حسن.
(٢) ص: ١٩١ برقم ١٠٧٨، ١٠٧٩، وقال: هذا حديث حسن، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع الصغير برقم ٦٧٧٩.
(٣) نيل الأوطار (٢/ ٥٣).
(٤) ص: ٣٧٥ برقم ٣٣٤١، وصححه الألباني رحمه الله في أحكام الجنائز ص: ٢٦.
(٥) مستدرك الحاكم (٢/ ٣٢٣) برقم ٢٢٦١، وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. قلت: ويشهد له ما قبله.
(٦) ص: ٧٨٥ برقم ١٨٨٦.
(٧) (٢٨/ ٤٩١ - ٤٩٢) برقم ١٧٢٥٣. وقال محققوه: حديث صحيح لغيره.
(٨) شرح رياض الصالحين (٥/ ٣٦٦).
(٩) (٧/ ٢٦) برقم ٣٩١١، وقال محققوه: إسناده حسن.
(١٠) ص: ٣٩٢ برقم ٢٠٧٨، وصحيح مسلم ص: ٦٣٩ برقم ١٥٦٢.
(١١) ص: ٤٤٧ برقم ٢٣٨٧.
(١٢) ص: ٤٢٧ برقم ٢٢٨٨، وصحيح مسلم ص: ٦٣٩ برقم ١٥٦٤.
(١٣) البكر هو الفتي من الإبل.
(١٤) ص: ٦٥٣ برقم ٢٢٨٨، وصحيح مسلم ص: ٦٣٩ برقم ١٥٦٤.
(١٥) ص: ٥٥٦ برقم ٢٨٩٣.
(١٦) معجم البلدان (٥/ ٢١٤). قال ياقوت الحموي: صِيْرٌ بكسر أوله وسكون ثانيه وآخره راء، جبل بأجإ في ديار طيء فيه كهوف شبه البيوت، والصير جبل على الساحل بين سيراف وعُمان.
(١٧) ص: ٥٥٩ - ٥٦٠ برقم ٣٥٦٣ وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وحسنه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع الصغير (١/ ٥١٢) برقم ٢٦٢٥.